الفن التشكيلي

صنعت الجماهير فنونها، نابعة من إيمانها بالحياة، وما بعد الحياة، ومن احتياجها الروحي والجمالي ما يجعل منها ضرورة، تسعى إليها في سعيها إلى إشباع ضروراتها المادية والمعرفية، فكيف اختفى من حياتنا في العقود الأخيرة الإحساس بهذه الضرورة؟ وكيف نستعيدها؟ وكيف نترك للأجيال القادمة زاداً جمالياً، يصافح عيونهم في رحلة الحياة؟

هذه الأسئلة وغيرها تجيب عنها د. مها فاروق في كتابها "الفنان سامي الرافعي والفن الجماهيري"، متتبعة أصول وتاريخ الفن الجماهيري متخذة من الفنان الكبير سامي رافعي مثالاً حياً على نجاحه في إقامة جسر بين فنه وبين الجماهير في مصر المعاصرة، مرتبطاً مرة برمز للنصر والكرامة، عبر إقامته النصب التذكاري للجندي المجهول بمدينة نصر، تخليداً لشهداء حرب أكتوبر 1973، ومرة عبر إقامته مسلة مصرية بمفهوم معاصر في مدخل مطار القاهرة، لتكون أول ما يشاهد المسافر من مصر لتبقى في ذاكرته رمزاً للتماهي مع الكون واجتياز الزمن، ومرات عدّة عبر جدارياته الخزفية الضخمة في 19 محطة لمترو الأنفاق بالقاهرة الكبرى، لتكون كل منها علامة دالة على المنطقة التي توجد بها المحطة، وصحبة جميلة لملايين الركاب في انتظار مجيء قطاراتهم فتكون خير أنيس لهم، يجلو حواسهم، ويذهب سأمهم، ويرتقي بمشاعرهم، ويذكرهم بتراثهم الحضاري أو بجماليات بيئتهم.

ويتسع مفهوم الفن الجماهيري عند المؤلفة، فيشمل ما قام سامي رافع بتنفيذه من ديكورات لعدد من عروض الأوبرا والمسرح في مصر والخارج، ولعدد من الأماكن العامة مثل مطار الأقصر، ومن التصميمات للعمارة الداخلية والملصقات السياحية والطوابع البريدية التذكارية والعملات المعدنية، وأغلفة الكتب و الأسطوانات، باختصار كل ما يصافح أبصار الجماهير في حركتها وفي حياتها اليومية، وما تتعامل معه من وسائل الثقافة والاتصال، ذلك لأن الفن ليس مجرد لوحة وتمثال، بل هو كل ما يضفي على الوجود لمسة جمالية، ومعنى اسمى من الوظيفة النفعية المحدودة، وهذا لا يحتاج من المواطن أن يذهب لزيارة المتحف أو قاعة العرض، بل يجعل الفن رسولاً يذهب إليه أينما وجد، وأياً كان مستوى ثقافته وميوله الفنية، وذلك هو التوجه الذي ذهبت إليه جميع الدول المتقدمة، وحقيقته في الحدائق والمباني والميادين والشوارع وفوق الجدران في الأماكن العامة، وفي الأدوات الاستعمالية في الحياة اليومية، فكان ذلك كله بمثابة مدرسة لتربية الذوق الجمالي للجماهير.