الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم


ازدانت إمارة دبي، قبل أيام قليلة، بحدث ثقافي وفني فريد، تمثل في عرض الدراما المسرحية الملحمية "الفارس"، المستوحاة من قصائد وأشعار الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، وهو العمل الذي يقدم السبت عرضه الأخير في قاعة الشيخ راشد، في مركز دبي التجاري العالمي.

وحرص على مصافحة أبطال العمل على خشبة المسرح، عقب انتهاء العرض، في مشهد يمثل دعمًا كبيرًا ورسالة واضحة للمبدعين كافة في شتى مجالات الإبداع.

العرض، الذي حرص على حضوره عدد كبير من الشيوخ والمسؤولين والمثقفين، جاء كذلك جماهيريًا بامتياز، فكان مشهد امتلاء القاعة بالجمهور ردًا حاسمًا على دعاوى نخبوية هذا النوع من الدراما المسرحية الشعرية، وتحويلها إلى جزء من الموروث المسرحي في العالم العربي.

كل شيء كان معدًا لقضاء سهرة فنية من طراز خاص، بدءًا من التنظيم الدقيق، وهو ما حرصت عليه الجهة المنتجة للعمل "براند دبي"، الذراع الإبداعية للمكتب الإعلامي لحكومة دبي، مرورًا بتوفير الدعم المادي والمعنوي الكامل لمتطلبات الإنتاج، فضلًا عن تقديم التسهيلات المصاحبة كافة، والبداية المبكرة للاستعداد للمشروع قبل ما يزيد على عام، وانتهاء بالتعاقد مع جهة لها باع طويل، وحضور مميز في هذا المجال على الصعيد العربي، من خلال مسرح الرحابنة العريق، الذي يمثله كل من مروان وغدي وأسامة الرحباني.

ولم تَسِرْ "الفارس" على النمط الاعتيادي التقليدي لمسرح "الرحابنة" الذين قدم بعضهم عروضًا مختلفة في دبي، بدأت بـ"المتنبي"، التي وجدت حين عرضها أيضًا دعمًا من قبل الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، ومرورًا بـ"زنوبيا"، في عام 2006، وانتهاء بـ"على أرض الغجر"، وهو العرض الذي تمت استضافته خلال الدورة قبل الماضية لمهرجان دبي للتسوق، حيث فرض الشعر حضوره الطاغي على العمل، وصيغ المحتوى الدرامي على نحو يجعله مطاوعًا لما تؤدي إليه القصائد والأشعار، سواء ما جاء منها بالنبطي أو باللغة العربية الفصحى.

من هنا فإن المتلقي كان بالفعل أمام تجربة اتسمت بالفرادة والجدة، فهي ليست مسرحية شعرية خالصة، كما أنها ليست مسرحية تقليدية، ولا يمكن وصفها بأنها مجرد عمل ينتمي إلى المسرح الغنائي، وما يمكن توصيفها به من خلال الحضور البارز لأكثر من جنس أو نوع مسرحي، هي أنها دراما ملحمية غنائية تحتفي بالشعر، وتحافظ على القالب الدرامي، وهذا التوصيف غير القصير، هو ما يعكس في جانب منه بالفعل، حالة التفرد التي صادفها جمهور عايش دقائق تطور الحدث الدرامي لحظة بلحظة.

وعلى الرغم من أن ثمة عروضًا بدأت تستعين بالتقنية الحديثة، خصوصًا في ما يتعلق بشاشة العرض العملاقة، والتداخل بينها وبين الحدث الرئيس على المسرح، وهو ما استعان به المخرج، مروان الرحباني، في العمل الذي كتبه دراميًا غدي وأسامة ومروان الرحباني، إلا أن المغاير هنا هو وجود مستوى آخر في المشهد المسرحي، بعد الشاشة التي تمثل خلفية عامة للمسرح، ومستبقة في الوقت ذاته للمساحة الرئيسة في الخشبة، وتلك المساحة الوسطى مثلت بعدًا مهمًا في العمل، كان يظهر ويختفي وفق متطلبات تطور الفعل الدرامي.

وعلى خلفية موسيقية لقصيدة "اسمع صدى صوتك"، تبدأ الحكاية، فـ"شموس"، التي تؤدي دورها المطربة بلقيس، في أول ظهور تمثيلي لها في مسيرتها الفنية، تتذكر الحبيب "فارس"، الذي يؤدي دوره الفنان غسان صليبا، وكان لافتًا هذا الاقتصاد الشديد في موجودات الديكور، الذي كاد يقتصر على الأريكة التي تجلس عليها "شموس"، لكن مثار الدهشة "فنيًا" هذا ينتفي بالدخول مباشرة في الحدث الرئيس، وهو اختطاف "شموس" من قبل "غيران"، وهو قائد مجموعة من المعتدين، ويمتلك حقدًا كبيرًا على "فارس"، ما دفعه لاختطاف حبيبته، التي يعتبرها نقطة ضعفه الوحيدة، لذلك جاءت مساحة الفراغ في المشهد الأول لتكون مناسبة لاستيعاب هجمة رجال "غيران" على المكان.

هذه الحالة من الفقد واللوعة التي عاشتها "شموس" في محبسها، وجموح "فارس" وشوقه لها، وإصراره على تخليصها من المغتصب، وضع الجمهور في سياق حالة ثنائية قوامها العشق والفروسية، وجاءت أشعار صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، رقراقة عذبة، لينهل من معينها المحتوى الدرامي، وهي الأجواء التي اجتهدت الخلفية الرئيسة من خلال لقطات الشاشة في مجاراتها.

المستوى الثاني، الذي مثلته الشاشةن جاء بمثابة وصال متجانس مع ما يدور على المساحة الرئيسة من الخشبة، فيما برز دور المستوى الثالث، الذي يتمثل في تلك المساحة التي تلي الشاشة، وكأنها جزء منها، في مشاهد بعينها، وأبرزها كان استيعابًا لحضور عجوز ممسك بعصا، يمثل في منطوق حديثه حضورًا للحكمة، من خلال نصائح موجزة ودالة ومقتضبة، يسدي بها على الدوام لـ"فارس".

رحلة البحث عن "شموس" واستعادتها من قبضة "غيران"، هما ما رسما خطوات "فارس" الذي انعكست عليه جوانب من الحكمة التي نهلها من "العجوز"، سواء عبر استدعاء قصائد وأشعار، أو من خلال القول النثري الذي يدل على شيم الكرام وأخلاق الفرسان، ومنه "أنا لا أشعر بوجودي إلا إذا منحت للآخرين سبل السعادة". ولم يخلُ العمل من بعض الإيحاءات التي تعالج أو تتطرق لمواقف معاصرة، في سياق القضية والرؤية الأعم للعمل، فـ"غيران" يبرر سطحية شعره بأن "هذا ما يريده الجمهور"، والمرأة الحكيمة تنهر "غيران" لحقده وغيرته من "فارس" وتصفه بأنّ له من اسمه نصيبًا، على غرار المقولة السائدة.

الاهتمام بالمحتوى الشعري والدرامي لم يكن حضوره على حساب سائر مفردات العمل الدرامي، حيث أبدع مروان الرحباني في تشكيل لوحات استعراضية، منفصلة ومتصلة في الوقت نفسه، حيث يمثل كل منها حالة مساندة للمشهد، فيما تشكل في مجموعها سياقًا منسجمًا وأصيلًا من تطور الفعل المسرحي على الخشبة.