داعش

جاءت الهجمات الارهابية امس الأول "الخميس" في جاكارتا لتستهدف بوضوح ثقافة التنوع التي تحظى بها اندونيسيا وتشكل أحد أهم مصادر قوتها الشاملة كدولة ذات أفق اقتصادي يبعث على التفاؤل.

وكانت مجموعة مرتبطة بتنظيم داعش الإرهابي قد أعلنت مسؤوليتها عن الهجمات الدامية والتفجيرات الانتحارية في قلب العاصمة الاندونيسية فيما رأى محللون ان هذه الهجمات تشكل محاولة لمد انشطة التنظيم الداعشي لجنوب شرق اسيا.

واندونيسيا التي استهدفت من قبل بهجمات ارهابية في عامي 2000 و2009 يقدر عدد سكانها ب260 مليون نسمة أغلبيتهم من المسلمين الذين يشكلون أكبر عدد للمسلمين في اي بلد في العالم ويقدمون نموذجا مضيئا "لاحترام الآخر" في مجتمع يدرك ان تنوعه هو مكمن قوته.

ويتجاوز عدد اللغات واللهجات المحلية في اندونيسيا 260 لغة ولهجة محلية ويتوزع السكان على 240 جماعة عرقية فيما ترفع هذه الدولة شعار"الوحدة في التنوع" وتمارسه في الواقع وهو شعار يبدو مستمدا من الثقافة الآسيوية بتلك المنطقة والتي تميل نحو صيغ التعايش والتعاطي مع الآخر واحترامه أيا كانت ديانته أو معتقداته.

ويرى بعض المعنيين بالشأن الاندونيسي والمطلعين على الواقع في هذه الدولة أن شعار "الوحدة في التنوع" يشكل ثقافة حياة كاملة تتلاءم مع التنوع الكبير بين الأعراق وتتجلى في التسامح والوجوه المبتسمة والشعور بالأمان بقدر ما تستخلص الجوهر الصحيح للعقيدة الإسلامية.

ومن هنا فالتجربة الأندونيسية تستحق التأمل، وهي حافلة بدروس مفيدة وحتى الجامعات هناك مثل جامعة "شريف هداية الله الاسلامية" مهتمة بنشر مفاهيم التسامح وفلسفة احترام الآخر في مجتمع متعدد الأعراق والديانات وان كانت اغلبيته من المسلمين وفي ظل اقتناع وتوافق على الفلسفة العامة لهذا المجتمع وهي ان "قوته في تنوعه".

ولعل هذا التنوع المثير للاعجاب في اطار من الوحدة والتماسك يبدو مثيرا للفضول حتى على مستوى الثقافة الغربية وهاهي اليزابيث بيساني تتناول في كتابها الصادر بالانجليزية بعنوان :"استكشاف امة يصعب تصورها" طرفا من قصة اندونيسيا التي يتوزع شعبها على ستة الاف جزيرة تشكل دولة واحدة.

ومن منظورها الثقافي الغربي تستكشف المؤلفة الواقع الاندونيسي منذ الاستقلال عام 1947 مع ومضات تاريخية لحقب سابقة في بلد تحدى افتراضات التقسيم والتفكيك بقدرة شعبه على الانصهار بروح من التسامح الحميد والانفتاح على الآخر.
وكان الرئيس الأندونيسي جوكو ويدودو قد اطلق في شهر سبتمبر الماضي مبادرة لاطلاق حملة عالمية تشارك فيها كل دول العالم الاسلامي لتصحيح صورة الاسلام ومواجهة الفكر المتطرف والارهاب بهدي من الآية القرآنية الكريمة :"وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين" صدق الله العظيم.

وحظت هذه المبادرة الأندونيسية بإشادة الأزهر الشريف وتأييده باعتبارها مبادرة ترمي لإبراز الصورة السمحة والقيم العظيمة التي قام عليها الدين الحنيف فيما أوضحت وزيرة الخارجية الإندونيسية ريتنو مارسودي ان الهدف من المبادرة استعادة قيم الاسلام السمحة كدين انزل رحمة للعالمين.

وتحتضن جامعة الأزهر أعدادا من طلاب العلم القادمين من اندونيسيا فيما قامت كوكبة من هؤلاء الطلاب الاندونيسيين بالاحتفال بذكرى المولد النبوي الشريف في نهاية العام الماضي بمقر "جمعية القراء الأندونيسيين" بالقاهرة عبر فن الإنشاد والابتهالات الدينية.
وهذه الجمعية ذات الطابع الثقافي والتي أسست بالقاهرة العام 1996 تهدف لتدريب الطلاب على الانشاد والابتهال وتعلم المقامات الصوتية فيما عرف الشعب الاندونيسي بعشقه لأصوات قراء الذكر الحكيم المصريين مثل الشيخ عبد الباسط عبد الصمد والشيخ مصطفى إسماعيل.

وهذا البلد الكبير في آسيا والعالم الاسلامي يقدم ايضا نموذجا مضيئا في البناء الديمقراطي الحديث كما ان التجربة الاندونيسية في الحفاظ على الدولة الوطنية في ظل متغيرات العولمة جديرة بالدراسة شأنها شأن تجربتها الاقتصادية في الصناعات الصغيرة والمتوسطة هي تجربة لافتة ومثيرة للاعجاب.

ولئن كانت اندونيسيا تقدم صورة ايجابية لمجتمع يسير على طريق العمل والانتاج والتنمية فهي ترتبط في الذاكرة المصرية والعربية "بأجواء باندونج" وحركة عدم الانحياز التي كان الرئيس الراحل جمال عبد الناصر احد ابرز القادة الذين دشنوها اثناء مشاركته في قمة باندونج التاريخيا بأندونيسيا في الثامن عشر من ابريل عام 1955.

فمؤتمر باندونج الافرو-اسيوي الذي عقد بحضور زعماء 29 دولة افريقية واسيوية شكل النواة الأولى لحركة عدم الانحياز شهد كذلك بدء ظهور قادة من دول العالم الثالث على المسرح الدولي بقوة وفي مقدمتهم جمال عبد الناصر الذي احتفلنا امس "الجمعة" بذكرى مولده الثام والتسعين، والرئيس الاندونيسي احمد سوكارنو ورئيس الوزراء الصيني شواين لاي ورئيس وزراء الهند جواهر آل نهرو والرئيس اليوجوسلافي جوزيف بروز تيتو.

واللافت ان اندونيسيا مازالت تشكل ساحة لاطلاق مبادرات هامة في العلاقات الدولية والاقتصادية حتى من جانب قادة دول اخرى مثلما حدث عندما طرح الرئيس الصيني تشي جين بينج اقتراحا في جاكارتا في الثالث من اكتوبر عام 2013 بشأن تأسيس "البنك الأسيوي للاستثمار في البنية التحتية" وهو اقتراح وصفه محللون بأنه يستهدف "اقامة بدائل تنموية دولية لهيمنة مؤسسات بريتون وودز ممثلة في صندوق النقد والبنك الدوليين على النظام المالي العالمي".

وكان صندوق النقد الدولي فضلا عن البنك الدولي قد اتخذا عدة مواقف وصفت بأنها "سلبية" حيال اندونيسيا بل وذهب بعض المعلقين الى انها كانت مواقف تستهدف افقار هذه الدولة الأسيوية الكبيرة ابان ما عرف بالأزمة المالية الأسيوية العام 1997.
وجاءت زيارة الرئيس عبد الفتاح السيسي لاندونيسيا في شهر سبتمبر الماضي ضمن جولة شملت سنغافورا والصين في اطار التوجه شرقا لدعم العلاقات المصرية مع القوى الصاعدة وفتح آفاق جديدة للتعاون وخاصة في مجال التعاون الاقتصادي وجذب الاستثمارات.
وكانت مصر أول دولة تعترف باستقلال اندونيسيا وأول دولة تبرم اتفاقية صداقة معها في العام 1947 ويعد البلدان معا من الدول المؤسسة لحركة عدم الانحياز ويجمعهما تاريخ متصل من التنسيق الوثيق في المحافل الدولية فيما تبدي اندونيسيا اهتماما صادقا بالاستثمار في مشروع تنمية منطقة قناة السويس.
ولئن شعر المصريون بالحزن والأسى حيال الهجمات الدامية في قلب جاكارتا فانهم يثقون بأن ثقافة التسامح والتنوع ستنتصر على قوى الظلام..ستبقى اندونيسيا الضاحكة المضيئة بشعبها الطيب والمضياف رغم كمائن الشر وويلات الارهاب.