المفسدين في الأرض

توعد الحق سبحانه وتعالى المفسدين في الأرض بأشد ألوان العقاب، جراء ما أفسدوا وخربوا وألحقوا الضرر بالمجتمع الذي يعيشون فيه . والواقع أن المفسدين في الأرض أشد خطراً من البغاة وأكثر جرماً منهم، لأنهم يروعون مجتمعاً بأكمله .
وعلى الرغم من أن هناك خلطاً بين مصطلح البغي، ومصطلح الإفساد في الأرض، وخلافاً بين بعض العلماء حول إلحاق الإرهابيين بأي من الفريقين، حيث يطلق عليهم البعض "بغاة"، بينما يرى البعض الآخر أنهم من المفسدين في الأرض، فأنا أرى أن كليهما شر .
والبغي ظلم وإفساد، وعرفه الفقهاء بأنه الخروج عن إمام الحق بغير حق، ويشترط لثبوت البغي أن يكون للخارجين على الحكم شبهة يستندون إليها في خروجهم . كما يشترط في هؤلاء البغاة (القوة والمنعة) وهي تعني: أن يتحصن هؤلاء في مكان يخضع لسيطرتهم، ولا قدرة لقوات الجيش أو الشرطة عليه، كأن يسيطروا على إحدى المدن ويعلنوا أنها غير تابعة لسلطان الحكومة .
والإفساد في الأرض شكل من أشكال الحرابة لله ورسوله، وهو من الجرائم العظمى، والأصل فيها اعتراض طرق الناس لأخذ أموالهم، باستخدام القوة، وهذه الجريمة تعظم إذا كانت خارج التجمعات السكنية، لأن السائر في طريقه يعتمد فقط على تأمين الله له وحفظه، حيث لا وجود للناس في الصحراء التي تشقها الطرقات، ولذا كان المعتدي معتدياً على الله ورسوله، فسميت هذه الجريمة بالحرابة لذلك، فهي حرب على الله ورسوله، ولذا تغلظت عقوباتها، لشدة قبحها، ومع أن الأصل في هذه الجريمة أن تكون خارج المدن والعمران، حتى إن بعض العلماء قصرها على هذا الوصف، إلا أنها تكون داخل المدن والعمران أيضاً، والمعتدي على الناس داخل العمران مع وجود الغوث من الناس أشد إجراماً ممن انفرد بشخص أو بعض أشخاص يسيرون في طريق بعيد عن الناس، ولذا لم يشترط أكثر الفقهاء حصولها خارج العمران .
ولا يشترط لحصول الحرابة أو الإفساد في الأرض تأويل ولا منعة، ولذلك كان إلحاق الإرهابيين بها أقرب من إلحاقهم بالبغي أو الخروج على نظام الحكم، ولأن إلحاقهم بالخوارج أو البغاة يمنع يد الجيش والشرطة عنهم، لأن البغاة لا يتعرض لهم إلا إذا بدؤوا باستخدام القوة بالفعل، أما الإفساد في الأرض فلقوات الشرطة والجيش تتبع القائمين عليه لإجهاض مخططاتهم قبل تنفيذها أو إحكام تدبيرها، وهذا أنفع لضبط الأمن، ومنع وقوع الكوارث الإرهابية، لا سيما بعد أن جنح هؤلاء لاستخدام التفجيرات التي تستهدف الآمنين من المارة في الشوارع، والساهرين على حراسة الناس، والنائمين في بيوتهم .
ومن هنا نخلص إلى أن الإرهابيين من المفسدين في الأرض أو المحاربين، وعقابهم إن قدر عليهم وهم على إجرامهم نص عليه كتاب ربنا: "إِنمَا جَزَاءُ الذِينَ يُحَارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً أَن يُقَتلُواْ أو يُصَلبُواْ أو تُقَطعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم منْ خِلافٍ أو يُنفَوْاْ مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ . إِلا الذِينَ تَابُواْ مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُواْ عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُواْ أَن اللّهَ غَفُورٌ رحِيمٌ" .
فالقرآن يحدد أربع عقوبات لهؤلاء المفسدين هي: القتل، أو القتل والصلب، أو قطع اليد والرجل معاً، أو النفي من الأرض، وللفقهاء تفصيل في كيفية تطبيق هذه العقوبات، فبعضهم يرى القاضي مخيراً في معاقبتهم بأي عقوبة من العقوبات المذكورة من غير نظر إلى نوع الاعتداء الحاصل من المفسد، وعلى ذلك فيمكن أن يصلب لمجرد ثبوت استعداده للاعتداء على الآمنين ولو لم ينفذ جريمته، ومنهم من خير القاضي بشرط ألا يختار عقوبة يترتب عليها أن يكون عقاب المفسد أخف ممن ارتكب نفس الاعتداء في الجرائم العاديّة، فإذا قتل فالخيار بين القتل أو الصلب فقط، ولا يجوز أن يعاقب بالقطع أو النفي، ومنهم من رتب بين العقوبات ونوع الاعتداء، فالنفي لمن أخاف فقط، والقطع لمن أخذ المال فقط، والقتل لمن قتل، والصلب لمن أخذ المال وقتل صاحبه، وفي نظري أنه لا يوجد إفساد أكبر من هذه العمليات الإجرامية التي تستهدف الآمنين من الناس، ولا يوجد عقوبة في شرعنا أشد من الصلب حتى إنها لم ترد في شرعنا إلا في هذه الجريمة فقط، ولذا فإن العقوبة الرادعة التي يجب أن يعاقب بها هؤلاء هي الصلب، وفي كيفيته خلاف بين الفقهاء، فبعضهم يرى أنه يقتل أولاً ثم يصلب للتشهير به وردع غيره، ومنهم من يرى أن يصلب حياً ثم يترك حتى يموت جوعاً وعطشاً، ومنهم من يرى أن يصلب حيّاً ثم يرمى بالرماح (أو الرصاص) حتى يموت .