مريد البرغوثي

عندما كان مريد البرغوثي يقرأ أشعاره لزملائه على مدرج كلية الآداب في جامعة القاهرة كان شابا مفعما بالأمل في التخرج والوظيفة المستقرة والإبداع الشعري، كان يحلم أن يعود إلى مدينته رام الله عودة المنتصر المنتشي بما أنجزه، وبأن تعود أراضي الثماني والأربعين إلى الفلسطينيين وتذهب "إسرائيل" إلى الأبد، وكانت رضوى عاشور بنت القاهرة وزميلته في الكلية تستمع إليه بتركيز مأخوذة بجمال شعره، وقد أهدتها حاستها الأدبية أنه سيصبح شاعرا كبيرا، فأحبت إبداعه وأحبت الإنسان فيه .

اجتمعت رؤاهما وقناعاتهما الأدبية والفكرية على طريق واحد، لكن، ليس كل ما يتمنى المرء يدركه، فالرياح جرت بما لا تشتهيه سفينتهما، وكانت رياحا هوجاء على أمواج عاتية، بدأت من 5 حزيران/ يونيو 1967 الذي ذهبت فيه الضفة الغربية، وأصبح البرغوثي (لاجئاً)، كما يقول في كتابه "رأيت رام الله" حيث ستمر ثلاثون سنة قبل أن يرى رام الله من جديد، ثلاثون سنة من المنافي والالتزام بالقضية وبالشرط الإبداعي، صحبته فيها زوجته رضوى عاشور مناضلة قوية وأستاذة جامعية مثابرة وكاتبة ملتزمة، وأما صابرة على بعْدِ زوجها الذي نفي أيضاً من مصر بسبب معارضته لاتفاقية كامب ديفيد، ليفترق عن زوجته وابنه مدة سبعة عشر عاماً لا يراهما إلا في زيارات عابرة .

بشعره وبرواياتها قاوما الظلم، ظلم الأوطان قبل العدو، وظلم الجور والفساد قبل ظلم الحرب، كتبا مسيرتهما بالصبر على مرارات كثيرة فيها الشخصي المتمثل في مكابدة دواعي الحياة وتحصيل الرزق والاستقرار في ظروف متقلبة، وفيها الاجتماعي الذي كان أول عقبة في وجه حبّهما، عندما رفض أهل رضوى زواجها بذلك الشاب الفلسطيني، ووقف أبوها موقفاً حاداً من تلك القضية، قبل أن يقابل مريد البرغوثي ويلامس رفعة أخلاقه، ويقتنع بجدارته بأن يكون زوجاً لابنته، وفيها السياسي المتمثل في الأنظمة التي ظلمتهما ونفتهما حتى في داخل الأوطان، وفيها مرارة الهم القومي في واقع عربي لم يشاهدا فيه على مدى سنوات عمرهما إلا الهزائم والانكسارات والانقسامات، حتى حول أكثر قضاياه عدالة، قضية فلسطين .
فقد البرغوثي أحبته وهو بعيد عنهم، ومات أخوه على بوابات الضفة ممنوعا من الاحتلال من دخولها بعد منفى طويل في فرنسا، عاث الاحتلال فسادا في رام الله وفلسطين كلها، وهو من هناك، من منافيه يزدرد ألم الحائر الذي لا حيلة له في تغيير الواقع، وجاءت كامب ديفيد وأوسلو لتضاعفا مأساته، لكنه بقي صامداً متماسكاً تؤازره زوجته الشجاعة رغم طول سنوات البعد، ويستمد من قلمه المبدع الرقراق الأمل، والشجاعة في مواجهة كل أشكال الزيف التي عبرت على جسد القضية الفلسطينية، وعلى الساحة العربية، فكانت دواوينه "الطوفان وإعادة التكوين": ،1972 وفلسطيني في الشمس: ،1974 ونشيد للفقر المسلح: ،1977 وطال الشتات: ،1987 منطق الكائنات: ،1996 وزهر الرمان: ،2000 ومنتصف الليل ،2005 وغيرها طلقات نارية في وجه كل تلك المرارات، وكل أشكال القبح في الحياة .
أما هي، رضوى عاشور، فقد انكوت بتلك النار، بنار الزيف حين آمنت بالعدالة والحرية ورفضت المهادنة، وترفعت عن مناصب النفاق التي يتسابق إليها الكثيرون، كان الحق والعدل والوطن نصب عينيها، ولم تتنازل عن شيء من ذلك حتى ترجلت عن جوادها وأسلمت روحها لخالقها في ،2014 وكانت تجد من قلب زوجها ونضاله المتواصل أسوة ودعما يدفعها للتماسك، وفي قلمها المتدفق بالمشاعر والروح الإنسانية راحة للضمير حين تسكب منه أحزانها وقناعاتها ورؤيتها للإنسان، لتتشكل من ذلك روايات كثيرة منها: الرحلة ،1983 وحَجَر دافئ ،1985 وخديجة وسوسن ،1987 وثلاثية غرناطة ،1995 والطنطورية 2010 .