نظريات متعددة للفضاء ثلاثي الابعاد

هل فضاء الكون مغلق أم مفتوح؟ تساؤل غالباً يهمله الباحثون، لكن يبدو أن دراسة المتغيرات السطحية لفضاء ثلاثي الأبعاد توفر لنا إجابات جديدة لمسألة توسع الفضاء، ففي نماذج ما يسمى بالكون "المتجعد أو المتغضن" نجد أن السماء عبارة عن مسرح بصري عملاق .

قلبت نظرية النسبية العامة لأينشتاين مفاهيم الزمان والمكان فالكون لم يعد وفقاً لها يمتلك بنية الفضاء غير القابل للتغيير والمنسوج وفقاً لزمن مستقل بل يمتلك الكون بنية الفضاء ذ الزمن أو ما يسمى (الزمكان) المشوه (المقوس أو المنحني) بسبب وجود المادة، والواقع أن مظهر تقوس أو انحناء الزمكان، يرجع للجاذبية التي تحدد مسارات الجسيمات المادية والأشعة الضوئية التي تجد نفسها أيضاً مضطرة لتتبع هندسة غير إقليدية رباعية الأبعاد .

تصف المعادلات الأساسية للنظرية النسبية كيف أن المحتوى المادي للكون يحدد هندسة الزمكان، وبهذه الطريقة، فإن النظرية تمكننا من وصف الكون ككل وفقاً لنماذج كونية معقولة، ومن بين الحلول التي تقدمها النظرية، وصف الكون بشكل صحيح لا يتناقض مع الأرصاد الفلكية .

شيد اينشتاين في عام 1917 أول نموذج رياضي للكون على أساس نظريته النسبية . وتمثل اكتشافه العظيم في اقتراح نهج جديد لمسألة الفضاء المنتهي أو اللامنتهي . وفي الواقع، يمكن للهندسة غير الإقليدية أن تقدم لنا وبدقة وصفاً لفضاء منته وغير محدود في نفس الوقت وبالتالي فإن أينشتاين عرض لأول مرة في تاريخ علم الكون، نموذجاً لكون منته للهروب من مفارقة "الحدود أو الحافة" .
والحقيقة أن أنصار الكون المنتهي وقفوا طويلاً أمام صعوبة أساسية لفهم شكل الكون، وكان على ما يبدو من الضروري أن يتخيلوا كوناً له مركز وحدود ولكن أرخيتاس الذي عاش في القرن الخامس (وهو فيلسوف إغريقي قديم ورياضي وفلكي ورجل دولة واستراتيجي وعالم انتمى إلى المدرسة الفيثاغورية، اشتهر بأنه مؤسس الميكانيكا الرياضية وكان صديقاً لأفلاطون) نص على مفارقة تهدف إلى إظهار لا معقولية فكرة الحافة المادية للكون وفي ذلك الوقت وجدت حجته قبولاً كبيراً في جميع المناقشات المتعلقة بالفضاء ونقل عنه قوله المشهور "إذا كنت في طرف السماء، هل يمكنني مد يدي أو العصا؟" ويضيف أرخيتاس: من غير المنطقي أن أفكر في أنني لا أستطيع فعل ذلك، ولكن إذا استطعت ذلك، فإن ما سيكون وراء ذلك إما جسماً مادياً أو فضاء، ولذا فمن الممكن أن نذهب إلى ما هو أبعد من ذلك، وهلم جرا، وإذا فرضنا أن هناك دائماً فضاءً جديداً يمكننا أن نمد نحوه العصا، فهذا يعني بوضوح أننا أمام امتداد بلا حدود" .
وإذا كان ما هو أبعد من الكون يمثل جزءاً منه، فإن العالم لا يمكن منطقياً أن يكون محدوداً بحدود دون أن تكون هناك مفارقة!
إزاء هذه التفسيرات الفلسفية كان لا بد من حسم الجدل وأن ننتظر تطور الهندسة غير الإقليدية في القرن التاسع عشر لحسم الجدل، فهذه الهندسة تسمح لنا بفهم فضاءات منتهية من دون أن تكون لها حواف (مثل السطح ثنائي الأبعاد للكرة) وبالتالي النظر إلى كون منته دون الوقوع في التناقض، هذا المفهوم لم يكن طبيعياً ومازال الارتباك مستمراً حتى اليوم حول هذا الأمر وهو يخيم على كثير من الأذهان، فعلى سبيل المثال، عندما يصف أحد المحاضرين توسع الكون، يجد نفسه مضطراً في كثير من الأحيان إلى طرح هذا السؤال: في أي شيء يحدث هذا التوسع للكون؟ ويكون الجواب أن الكون لا يتوسع في أي شيء، لأنه ليس هناك أي فضاء خارج الفضاء ذاته! ولكن كي نفهم ذلك حقاً، يجب علينا الانطلاق من منظور عقلي غير إقليدي .
إن مسألة تناهي أو لاتناهي الفضاء وضعت في سياق نماذج العالمين فريدمان- لو ميتر، وكانت أكثر شيوعاً تحت مسمى "نماذج الانفجار الكبير" . وتفترض هذه النماذج أن الكون له الخصائص نفسها في كل مكان "متجانس وموحد الخواص"، ولكن هذه الخصائص من نوعين فقط: أولاً التقوس أو الانحناء (وهو ثابت في الفضاء لكن لم تحدد إشارته بعد) وثانياً، الطوبولوجيا (علم دراسة الخصائص المكانية) . وفيما يتعلق بالانحناء ثمة ثلاثة مجالات لشكل الفضاء : الفضاء الإقليدي (أي أن الانحناء أو التقوس فيه يساوي صفراً، وهو الفضاء الذي نعرف خصائصه)، والفضاء الكروي (تقوس أو انحناء موجب) والفضاء قطعي الزائد (تقوس أو انحناء سالب)، وبالنسبة للفضاء الكروي فهو في أي حال، منته (وهو أحد الأسباب التي جعلت آينشتاين، يختاره منذ البداية) . أما بالنسبة للفضاءات الأخرى، فإن الطابع المنتهي أو غير المنتهي فيها يعتمد على الطوبولوجيا ولذا نجد أنه في أبسط حالاتها تكون لا منتهية .
وتخبرنا النسبية أن انحناء الزمكان، العائد لكتلة الأرض هو الذي يؤدي إلى هذا التسارع الذي نسميه بالجاذبية، إن فرضية الكون المتوسع لها ثلاثة حالات ممكنة، وكل حالة تضعنا أمام تصور مختلف لنهاية الكون، هذه الحالات هي الكون المفتوح (Open universe) والكون المسطح (Flat universe) والكون المغلق، (Closed universe)، فإذا كان الكون مفتوحاً، فسوف يستمر في التوسع إلى اللانهاية، أما إذا كان مسطحاً، فإنه أيضاً سوف يتوسع إلى اللانهاية ولكن معدل التوسع سوف ينعدم بعد زمن معين، أما الكون المغلق فإنه سوف يتوقف عن التوسع بعد زمن معين ويبدأ بالانكماش والانهيار على نفسه، وفي الحالات الثلاث فإن معدل التوسع سوف يتباطأ، والقوة التي تسبب هذا التباطؤ هي قوة الجاذبية .
ولكن من كل ذلك ما الذي أثبتته الأرصاد؟ إنها تشير إلى متوسط كثافة للمادة أقل بحوالي عشر مرات من القيمة الحرجة، وإذا ما أهملنا، التعقيدات الطبوغرافية والثابت الكوني، فإن الفضاء سيكون لانهائياً، وبالفعل، فإن القيمة الملاحظة من خلال الأرصاد ليست إلا في حدها الأدنى، ومن هنا فإنه سيكون من العبث أن نعتقد أننا نرى كل المادة في الكون، فثمة أسباب مختلفة تشير إلى وجود كميات كبيرة من الكتلة المخفية التي ربما تكفي كي توصل الكثافة الفعلية للكون إلى القيمة الحرجة، وفي هذه الحالة، فإن الكون سيكون مفتوحاً في المكان والزمان، وهذا هو النموذج الإقليدي لأينشتاين ودي سيتر اللذين اقترحاه في عام ،1931 والذي ما زال حتى اليوم النموذج المفضل عند العديد من علماء الكون من دون أي مبرر (اللهم إلا . . الناحية الجمالية!) .
ويرى بعض العلماء أن المسائل المتعلقة بالشكل الكلي للفضاء، وعلى وجه الخصوص، بتوسعه المتناهي أو اللا متناهي، لا علاقة لها في نهاية المطاف بالنسبية العامة ولكن بطوبولوجيا الكون، وفي هذا الصدد لا شيء يلزم الفضاء أن يكون على أبسط شكل من الناحية الطوبولوجية أو ما يسمى ب"ذات صلة بسيطة" لأن النسبية العامة لا تفرض أي قيود على الخصائص الكلية للزمكان، فالعديد من "المتغيرات الطوبوغرافية ذات الفضاء ثلاثي الأبعاد يمكن استخدامها لبناء نماذج قوية للكون، أي إنها متوافقة مع كل من النسبية العامة والأرصاد" . ومن الملاحظ أن نماذج الفضاء "ذات الصلة المتعددة"، كانت مصدراً لمفاجآت من خلال بناء "وهم اللانهاية"، فلبناء فضاءات "ذات صلة متعددة"، تخبرنا الرياضيات أنه من الممكن أن نبدأ بواحد من ثلاثة أنواع من الفضاءات "العادية" كما أن تحديد بعض النقاط بالنسبة لبعضها البعض يغير شكل الفضاء ويجعله متعدد الاتصال، ومن هنا يمكننا بناء نماذج للكون يكون الفضاء فيها منتهياً وبحجم صغير فعلاً (على الرغم من أن التقوس أو الانحناء يمكن أن يكون سلبياً أو صفراً) وهذا ما نسميه "بالكون المصغر"، وأبسط مثال على ذلك هو حين يكون فضاؤنا على شكل ( hypertorus) أي شكل يشبه عجلة الإنقاذ التي يلبسها المرء في البحر كي لا يغرق، هذا الفضاء يبلغ نصف قطره أقل من عشرة مليارات سنة ضوئية . وفي هذه الحالة، سيكون بإمكان أشعة الضوء أخذ الوقت الكافي لتلف حول الكون عدة مرات، وهذا يعني أن كل جرم كوني (كل مجرة على سبيل المثال) يجب أن تظهر بعدة صور وهمية "شبحية" في مناطق مختلفة من السماء وبالتالي سيظهر الكون المرئي وكأنه يتكون من تكرار لمجموعة المجرات نفسها .
وفي الحقيقة ليس من السهل التحقق ما إذا كنا نعيش أم لا في كون- مصغر، فالصور الشبحية لكل مجرة "حقيقية" ستظهر لنا في اتجاهات مختلفة، وبدرجة لمعان مختلفة، وفي وضعيات مختلفة بل وفي حقب مختلفة من تطور المجرة المعنية، وسيكون من المستحيل عملياً التعرف إليها على هذا النحو! فالكون يمكن أن يظهر بالنسبة لنا، واسعاً و"مسطحاً"، ومليئاً بمليارات المجرات، في حين أنه في الواقع أصغر بكثير، و"مطوي" لكنه لا يحتوي إلا على عدد قليل من الأجرام الأصيلة ما يعني أننا يمكن أن نعيش في وهم بصري كوني ضخم! وبالطبع، يمكن للبيانات الحالية المتعلقة بالرصد أن توفر لنا إمكانية استبعاد احتمالية وجود كون صغير، . . . وإلا لكنا تعرفنا على صور متعددة لمجرتنا! وثمة حجج مختلفة من هذا النوع، تنطبق على بعض الأجرام الكونية (كعناقيد المجرات الأقرب إلينا)، وتسمح لنا باستبعاد كون أبعاده أقل من بضع مئات من ملايين السنوات الضوئية .
مفهوم الكون الصغير المتجعد أو المغضن ربما يقع ضمن علم الجمال عند الفلاسفة الإغريق، لكن يبدو أن هذا المفهوم كانت له الأسبقية عند معظم علماء الفيزياء الحديثة الذين يسعون إلى استبعاد اللامتناهي من نظرياتهم، واللانهائية المكانية ليست هي اللانهائية الوحيدة في علم الكونيات النسبي فالنظرية تتنبأ بتكوينات نجد فيها أن بعض الكميات الهندسية (التقوس أو الانحناء) والفيزيائية (كثافة الطاقة، ودرجة الحرارة) تصبح لانهائية وهي ما يطلق عليها التفردات الثقالية أو الجذبوية (المكان الذي تصبح فيه تقريباً الجاذبية لانهائية . والمقصود هو لا نهائية الوزن لحجم معين في ظروف هذا المكان) وأشهرها التفردات الأولية لما يسمى بالانفجار العظيم، والتفردة النهائية المخفية في أعماق الثقب الأسود .
تساور علماء الفيزياء الشكوك من أن النظرية التي يتمخض عنها تفردات ربما لا تكون صحيحة، والحقيقة أن النسبية العامة غير مكتملة لأنها لا تأخذ في عين الاعتبار مبادئ ميكانيكا الكم ، فهذه النظرية تتحكم بتطور العالم المجهري، وخاصة مجال الجسيمات الأولية، وخاصيتها الأساسية تكمن في توفير وصف "غامض" للظواهر في الحالة التي لا يمكن أن تحسب فيها الأحداث إلا من خلال مبدأ الاحتمالات، أما بالنسبة لظاهرة التفردات فتدخل في الحسبان بنية الزمكان وعلى مستويات صغيرة جداً، فهناك مثلاً طول يسمى بطول بلانك، ويعادل 10-33 سم وهو يمثل أصغر حجم يمكن أن ننظر فيه إلى حيز الزمكان على أنه أملس أي غير متغضن، أما إذا كان هذا الحجم أدنى من ذلك فإن نسيج الزمكان لا يكون مستمراً ولكن مثله مثل المادة والطاقة، يصبح مشكلاً من حبيبات أو جسيمات صغيرة وبالتالي يتم حينها استبدال اللامتناهيات الجذبوية بتموجات كمومية في حيز الزمكان .
ويمكن القول إنه مع نظرية "علم الكونيات الكمومي" وهي النظرية الواعدة التي ينتظر منها حدوث تطورات مدهشة، تلوح لنا في الأفق أكوان متعددة، ومتزامنة من دون أن تتفاعل فيما بينهما، ولا تختلف عن بعضها بعضاً إلا بهندستها، وطوبولوجياتها، وثوابتها الأساسية في الفيزياء .
كل هذه الأكوان الصغيرة ليست إلا زبداً في هذا الكون الهائل، اللانهائي والأبدي، وكأنه محيط محتدم في تحول دائم، إنها الأكوان التي يطلق عليها الفيزيائيون "الفراغ الكوانتي أو الكمومي"، أما بالنسبة لكوننا المرئي فهو يشغل "فقاعة" انتقالية، تقع وسط "زبد" شكلته كل الفقاعات المتولدة من التموجات الطبيعية للفراغ .