القاهرة _صوت الأمارات
تصفو القلوب في شهر رمضان المبارك، وتجدد النوايا، ويصدق العزم، وتتطلع النفوس لمعالي خصال الخير والعطاء، والبذل والعبادة، والعاقل من استنفد وقته وجهده في استثمار فرص الزمان.
وإن كانت سير الصحابة والصحابيات الكرام، ومناقب العلماء والعالمات، أحد الملهمات لعلو الهمم، فلنقطف من سيرتهم العطرة، ما يمكننا أن نطبقه في حياتنا، فننال به خيري الدنيا والآخرة.. ويطيب لنا الحديث اليوم عن إحدى أمهات المؤمنين، وهي السيدة ماريا بنت شمعون، والتي أنجبت لرسول الله ثالث أبنائه الذكور، إبراهيم الذي توفي وهو طفل صغير.
وفي حوار لبوابة "الأهرام" مع فضيلة الدكتور محمد عبدالرحمن الريحاني عميد كلية دار العلوم بجامعة المنيا.. كان نص الحوار كالتالي:
مازلنا نعرض شخصيات إسلامية صنعت التاريخ الإسلامي خلال شهر رمضان وهذه القصة نتحاور فيها مع الدكتور محمد عبدالرحمن الريحاني عميد كلية دار العلوم بجامعة المنيا في حوار خاص لـ (بوابة الأهرام): يحكي لنا كيف وصلت السيدة مارية (أم إبراهيم) إلى المدينة المنورة وكيف تزوجها النبي، صلى الله عليه وسلم.. وإلى نص الحوار:
** كيف وصلت السيدة مارية إلى المدينة المنورة؟ وما قصة زواج رسول الله "صلى الله عليه وسلم" منها؟
بداية نقول إن صلح الحديبية في العام السادس من الهجرة كان بداية للفتح والاستقرار والانتشار للإسلام خارج حدود الجزيرة؛ إذ فرغ الرسول "صلى الله عليه وسلم"؛ لإرسال الرسل إلى الملوك والحكام يعرفهم بأمر الدين الخاتم ويدعوهم إلى الإسلام فأرسل إلى فارس وإلى هرقل بالرومان وإلى المقوقس حاكم مصر، وكان ذلك سنة 7هـ وإلى الحبشة وعلى أي حال كان استقبال بعض الحكام لكتب رسول الله "صلى الله عليه وسلم" بالحسنى، وكان البعض بالقوة؛ مثلما حدث مع ملك فارس.
أياً ما يكون الأمر، فقد كان نصيب مصر أن يرسل إليها الصحابي الجليل حاطب بن أبي بلتعة الذي حمل كتاب الرسول "صلى الله عليه وسلم" إلى المقوقس حاكم الإسكندرية، والذي كان نائباً للدولة البيزنطية في مصر، الذي رحب برسول الله "صلى الله عليه وسلم"، وأنصت لكلام حاطب وما جاء في كتاب رسول الله "صلى الله عليه وسلم"، وقال له: "إني قد نظرت في أمر هذا النبي فوجدته لا يأمر بمزهود فيه، ولا ينهى عن مرغوب فيه، ولم أجده بالساحر الضال، ولا الكاهن الكاذب، ووجدت معه آية النبوة بإخراج الخبء والأخبار بالنجوى، وسأنظر." ثم رد كتاباً مع حاطب إلى النبي صلى الله عليه وسلم جاء فيه "بسم الله الرحمن الرحيم، إلى محمد بن عبد الله، من المقوقس عظيم القبط سلام عليك أما بعد فقد قرأت كتابك، وفهمت ما ذكرت فيه، وما تدعو إليه، وقد علمت أن نبياً بقي، وكنت أظن أنه سيخرج بالشام، وقد أكرمت رسولك، وبعثت إليك بجاريتين لهما مكان في القبط عظيم، وبكسوة، وأهديت إليك بغلة لتركبها والسلام عليك".
وقبل أن ندلف إلى قصة زواج الرسول عليه السلام من السيدة مارية لنا أن نتأمل الموقف التاريخي المصدق للرسالة والوحي الإلهي، فالله قد ذكر في كتابه الإنجيل قد تضمن البشرى برسول الله الخاتم في قوله "وسيأتي برسول من بعدي اسمه أحمد" وهذا جاء في القص الحق فيما قصه الله على لسان المسيح عليه السلام مخبراً به قومه، ومن ثم فأهل الإيمان الحق من أتباع المسيح يؤمنون بمجيء رسول الرسالة الخاتمة ولا نحصرها في الإسلام؛ لأن كل رسالة سابقة منذ إبراهيم عليه السلام هي إسلام؛ فإبراهيم كان حنيفاً مسلماً وعيسى عليه السلام قال له أنصاره "اشهد بأنا مسلمون" ولعل هذا يفسر لك موقف النجاشي بالحبشة من المسلمين حينما نصحهم الرسول "صلى الله عليه وسلم" بالهجرة إلى الحبشة معللاً أن فيها ملكاً عادلاً؛ ولما سمع النجاشي قول القرآن في مريم عليها السلام قال "إن هذا والذي جاء به عيسى ليخرج من مشكاة واحدة"، وهذا يؤكد دليل الإخبار في القرآن "إن الدين عند الله الإسلام".
وفيما أظن أن اختيار الإهداء الذي بعث به المقوقس عظيم مصر في الجاريتين كان له رمز؛ حيث وصف المقوقس شمعون والد السيدة مارية بأنه من عظماء القبط، وهذا وصف يلفتنا إلى أنه ربما كان من المتعبدين المخلصين العارفين بالإنجيل؛ حيث ظل المعنى في التعليق أنه سيهدي إلى رسول طاهر من هم من أصلاب الأطهار المقيدين إلى الله العارفين بالدين.
وهنا يدلف بنا إلى أمل آخر وهو أنه عندما وصلت هدية المقوقس إلى الرسول "صلى الله عليه وسلم" أهدى "سيرين" وهي أخت مارية إلى أحد كتاب الوحي والمنافحين عن الإسلام وهو شاعر المسلمين حسان بن ثابت الصحابي الجليل فتزوجها، ثم اصطفى الرسول "صلى الله عليه وسلم" السيدة مارية المصرية فتزوجها، وقيل إنها كانت آخر زوجاته عليه السلام، ووصفت بأنها كانت جميلة الطلعة، وكان الرسول "صلى الله عليه وسلم" قد قارب الستين فبنى بها وأنجبت له آخر أولاده من الذكور؛ وهو إبراهيم الذي مات عن سنة وبضع شهور، وحزن عليه الرسول "صلى الله عليه وسلم" حزنًا شديدًا، وقال قولته المشهورة عندما سأله أحد الصحابة عن بكائه وهو رسول الله، قال إن العين لتدمع والقلب ليحزن وإنا على فراقك يا إبراهيم لمحزونون، ولكن لا نقول إلا ما يرضي الله إنا لله وإنا إليه راجعون.
وتوفي الرسول عليه السلام ومارية له زوج، وماتت بعده بخمس سنوات في خلافة عمر بن الخطاب؛ الذي صلى عليها والمسلمون، ثم دفنت بالبقيع مع زوجات الرسول "صلى الله عليه وسلم".
** ما الحِكَم المستفادة من زواج الرسول، "صلى الله عليه وسلم" من السيدة مارية؟
ج: إنك لو نظرت من حيث المكان نجد أن السيدة هاجر أم إسماعيل مصرية، والأنبياء لا يحملون إلا في أصلاب الأطهار وأرحام الطاهرات؛ ومن حيث المكان أيضاً نجد السيدة مارية تحمل وتلد الولد الذي كان أقرب شبهاً برسول الله، "صلى الله عليه وسلم"، وسماه على اسم جده إبراهيم زوج هاجر ووالد إسماعيل، وما أطهر نسب المصطفى عليه السلام، وما كان لنطفته إلا أن تكون في رحم طاهرة، وهذا يرجعنا إلى الظن الأول أن شمعون والد السيدة مارية كان من العُباد المتقربين، وأن نجلته كانت كذلك، وفي موت إبراهيم كأخوانه من الذكور حكمة تصدق الوحي، ويصدق بها الوعد؛ حيث أبناء الرسل على دينهم غالباً من الأنبياء، والله قد قضى أن الرسول، صلى الله عليه وسلم، هو خاتم الأنبياء والمرسلين، ولو عاش له ولد بعده لنقض الحكم وما كان لتقدير الله أن يخرج عن علمه أو عن حكمه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء.
ولو نظرت من حيث التشريع؛ فإن السيدة مارية كانت كتابية مؤمنة، والله يضرب مثالاً برسوله في التشريع؛ حيث أحلّ للمؤمن أن يتزوج بالكتابية المؤمنة نعم قيل إن السيدة مارية قد أسلمت قبل دخول الرسول، "صلى الله عليه وسلم"، بها، ولكن كما قلنا إن الإسلام رسالة من لدن آدم حتى رسول الله، "صلى الله عليه وسلم"، نعم هي علم على دين الرسول؛ لأنه الخاتم؛ لكن كل الرسل السابقين شهدوا بالإسلام لله، وكل الرسالات هي من منبع واحد من الله الواحد الأحد الفرد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد، والمسلم ينقص إسلامه إن لم يؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، فمن لا يؤمن بأن موسى رسول فليس بمسلم، ومن لا يؤمن بأن عيسى رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم فليس بمسلم.
ولعل هذا يلفتك أيضاً على وصية الرسول عليه السلام بمصر المباركة وأهلها بالخير؛ معللاً لأن لكم فيها صهراً ونسبا فالصهر بالسيدة مارية والنسب بهاجر أم إسماعيل عليه السلام جد العرب وابن أبي الأنبياء، وخليل الله إبراهيم عليه السلام، صلى الله على نبينا وجميع أنبيائه وزوجاته الطاهرات وبارك في مصر أرض البركة، التي ما تجلى الله على بقعة في الأرض إلا فيها، فهي محروسة بكرمه ورعايته ومن أرادها بسوء قصم الله ظهره إن شاء الله.
** أرى أن كثيرًا من الأنبياء كان لهم علاقة بمصر من قريب أو من بعيد؟
وليتنا نتأمل سيرة الأنبياء والرسل في هذا الشهر الكريم فأبو الأنبياء ينطلق بهاجر إلى واد غير ذي زرع من مصر، وتعمر الجزيرة بأصل الطاهرات من مصر، ويوسف عليه السلام بمصر، وركب يعقوب والأسباط بمصر، وموسى وهارون عليهما السلام بمصر، والطاهرة مارية القبطية أم إبراهيم عليه السلام من مصر.