فيلم Hidden Figures

فيلم Hidden Figures أو "أرقام مخفية" أو "شخصيات مطموسة"، نظراً لازدواجية معنى الكلمة، يبدأ بثلاث نساء أميركيات من أصول إفريقية، هن كاثرين جونسون (تاراجي هينسون)، ودوروثي فون (أوكتافيا سبنسر)، وميري جاكسون (جانيل مونيه)، واقفات في منتصف الطريق بانتظار أن تنتهي فون من إصلاح عطلٍ في السيارة.

يتوقف ضابط ليتحرى عن المشكلة، وعندما يعلم أنهن موظفات في وكالة الفضاء الأميركية (ناسا) يتحمس عندما تنتابه المشاعر الوطنية بأحقية أميركا في تصدّر سباق غزو الفضاء على حساب الروس، ويقرر أن يرافقهن بسيارته إلى مقر عملهن، وعندها تقول ميري الجملة التي تحدد ملامح الفيلم، وهي: "ثلاث نساء زنجيات يقدن سيارتهن خلف شرطي أبيض على طريق سريع عام 1961، لابد أن تكون معجزة إلهية". فون مهندسة كمبيوتر، تشرف على مجموعة فتيات، محل زميلتها المريضة منذ عام دون الحصول على المنصب رسمياً، ولا الراتب المستحق، ولا حتى تتمكن من انتزاع اعتراف بذلك من رئيستها المتعالية فيفيان ميتشيل (كيرستين دانست)، التي لا تؤمن بمساواة الحقوق بين البيض وتلك الفئة من أصول إفريقية من المجتمع.

جاكسون تطمح إلى أن تصبح مهندسة فضاء، وعندما تصعّب ميتشيل الموضوع أمامها تضطر للذهاب إلى المحكمة لانتزاع حقها في الحصول على شهادة جامعية أعلى من شهادتها عن طريق الدراسة في صفوف مسائية مخصصة للبيض فقط. أما جونسون فهي مركز القصة، عالمة رياضيات، لفتت الأنظار بعبقريتها، وتمكنت من الدخول إلى الحلقة الضيقة المكونة من المدير العام وأقرب مساعديه ورواد الفضاء، ويمكن القول إنها مهندسة غزوات أميركا إلى الفضاء، التي مهدت لهبوط الإنسان على سطح القمر عام 1969.

الفيلم مقتبس من كتاب بالعنوان نفسه، كتبته مارغو لي شيتيرلي عن أحداث حقيقية، والشخصيات كلها حقيقية، باستثناء شخصية آل هاريسون (الرائع كيفن كوستنر)، وشخصيته عبارة عن مجموعة شخصيات حقيقية مركبة. الفيلم يوظف عزيمة النساء الثلاث، وقوة إرادتهن، لتسليط الضوء على موضوع العنصرية، والتحيز الذكوري ضد النساء في الثقافة الأميركية في منتصف القرن العشرين.

مقارنة مع الأفلام الكثيرة التي تناولت حالة الظلم والاضطهاد التي تعرض لها الأميركيون من أصول إفريقية؛ فإن هذا الفيلم هو الأفضل والأخف ظلاً. لو استثنينا فيلم "12 سنة عبداً" العنيف، فإن بقية الأفلام ثقيلة درامياً، ولا تتبع نهجاً حاذقاً في إيصال الرسالة، وتركز على تعظيم الشخصيات أكثر من محاولة إبراز إنجازاتها.
هذا الفيلم (شارك في كتابته وأخرجه ثيودور ميلفي صاحب الفيلم الجميل سان فينسنت عام 2014)، يتمتع بالروح المرحة في بناء أجوائه أكثر من الدراما الثقيلة، ويترك منهج طرح الشخصية الواحدة، ويركز على ثلاث شخصيات تعمل في مكان واحد، وفي الوقت نفسه كل واحدة لها خط قصتها شبه المستقل، ما يمنح هذا الفيلم أفضلية على غيره، وأسبقية في نوعية الطرح، لأنه يقدم ثلاث قصص نجاح بدل واحدة.

ورغم أن القصة تميل ناحية كاثرين، إلا أن مهندسة الكمبيوتر فون، ومهندسة الفضاء جاكسون، تحصلان على الوقت الكافي لقصتيهما. أفضل مشاهد الفيلم هي التي تحدث في مكاتب "ناسا" أكثر من تلك التي تقع في بيوتهن لتعكس حياتهن الشخصية. مشاهد البيوت الهدف منها عادة إظهار الجانب الإنساني للشخصيات، لكن المفارقة الطريفة أن هذا الجانب من كل شخصية يبرز بصورة أفضل في لقطات العمل.

هناك نقطة نود الإشارة إليها، وهي أن هذا الفيلم يعرض مادة الرياضيات كأحد موضوعاته، وفي الذاكرة هناك فيلمان يعرضان الموضوع نفسه، الأول كان فيلم "عقل جميل" 2001، والثاني فيلم "المحاسب" الرديء الذي يقلد الفيلم الأول والكثير من الأفلام الهندية في حبكته التعيسة ومفاجأتها الأتعس، لكن عندما يعرض هذا الفيلم الرياضيات كموضوع، فإن أجمل ما فيه أنه لا يبالغ في عرضه (مشهد كتابة العمليات الحسابية على الزجاج أصبح كليشيه لا يطاق).

من أكثر النقاط إثارة للاهتمام في الفيلم محاولة الشخصيات اختراق أقوى حاجز اجتماعي كان موجوداً وقتها، وهو كسر الهيمنة الذكورية في البيئة المؤسساتية الأميركية.
من أجمل الأمثلة التي يحتويها الفيلم لإبراز مشكلة عدم المساواة دون اللجوء للعنف الجسدي أو اللفظي - كما فعلت الأفلام السابقة - كان مشهد جري كاثرين جونسون من مكتبها الجديد في قسم دراسات الفضاء إلى الحمام المخصص للملونين الموجود في مبنى يبعد 800 متر، وفي كل مرة تذهب فيها إلى الحمام تستغرق 30-40 دقيقة. وعندما واجهها هاريسون بالسؤال عما تفعله كل هذه المدة في الحمام، جاءت إجابة كاثرين قوية ومؤثرة ومحطمة للقلوب، وهي أن هذا المبنى الذي تعمل به لا يحوي حمامات للملونين، وأن عليها احتمال تلك الظروف الرهيبة التي تمر بها لمجرد إثبات نفسها في تلك البيئة الطاردة للموظف أصلاً، فضلاً عن ألا أحد يريد لمس إبريق القهوة الذي تستخدمه كاثرين، لمجرد أنها زنجية.

سؤال هاريسون في حد ذاته يعكس خوفاً هو أقرب إلى هوس بنظريات المؤامرة السائدة آنذاك، فالتصور كان أن كاثرين ربما تكون جاسوسة تمضي وقتاً طويلاً في رحلاتها إلى الحمام لتنسخ معلومات تنقلها إلى الروس، وحتى عندما تمكنت كاثرين بذكائها من تخمين النتائج الخاطئة للعمليات الحسابية التي أجراها المهندسون الذكور في تلك الغرفة، وأكدت لهم أنهم لن يتمكنوا من النجاح، قالوا لها: هل أنتِ جاسوسة روسية؟
ردة فعل هاريسون كانت حكيمة عندما وضع العنصرية جانباً، وبدأ في تأسيس بيئة عمل وفقاً للمعايير والمبادئ الوطنية، واحترام إسهامات كل موظف في وكالة الفضاء، بغض النظر عن لون بشرته.

سبب نجاح الفيلم تمكّن ميلفي من تشكيل المجموعة الأنسب من الممثلات، أو بالإمكان القول: إنها المثالية لأداء بطولات هذا العمل. أوكتافيا سبنسر وكيفن كوستنر فائزان بالأوسكار، بينما البقية كلهم فائزون بجوائز دراما أخرى، أو مرشحون عن أدوار سابقة. وأيضاً قد يكون سبب نجاحه توقيت طرحه، فالفيلم يتناول معاناة ثلاث شخصيات في وقت كان فيه المجتمع الأميركي منقسماً على نفسه حول موضوع العنصرية، ويعرض بعد 55 عاماً من ذلك الانقسام في وقت لايزال المجتمع الأميركي فيه يعاني الانقسام السياسي. مونيه تعطي أداءً جميلاً، وربما الأجمل في مسيرتها الفنية، كوستنر مثل مورغان فريمان، وجهه وأداؤه يعكسان حكمة وكاريزما، ومن الأفضل أن يمضي بقية مسيرته في تمثيل أدوار مساعدة ومؤثرة مثل هذا الدور أفضل من أدوار تعيسة في أفلام "أكشن" رخيصة.

"أعداد مخفية" دراما ملهمة في زمن صعب، ومجتمع أميركي منقسم، وهو أفضل فيلم عن مادة الرياضيات، وأفضل فيلم عن شخصيات أميركية من أصول إفريقية كانت مخفية في زمن ما، واليوم يبرزها هذا الفيلم، لأنها فعلاً تستحق أن تخلد ذكراها، لا نقول هذا فيلم خال من الكليشيه، لكن هو فيلم جميل وخفيف عن موضوع ثقيل، وهو بسيط في عرضه لمحتواه، ويستحق المشاهدة.